الجمعة، 10 يونيو 2011

عشائر كوردية فى وثائق عثمانية

عشائر كوردية في وثائق عثمانية

في الوقت الذي عُني فيه المؤرخون بتسجيل مختلف الشؤون السياسية والحضارية في المدن، فإنهم سكتوا إلاّ نادراً عن ذكر ما كان يجري في خارج هذه المدن، ولذلك لم يُعنوا بتسجيل حوادث التاريخ في الريف الزراعي، وفي البراري والمراعي، إلاّ حينما كانوا يضطرون إلى متابعة حملة قادها هذا الأمير أو ذلك الوالي لـ(تأديب) عشيرة امتنعت عن دفع ما فرض عليها من ضرائب، أو (تمردت) بسبب ظلم ما تعرضت له، وهكذا بات من العسير على المؤرخ اليوم أن يتعرف على تاريخ ما هو خارج عن أسوار المدينة، من قرى كثيرة، وقبائل منتشرة، وأمراء ريفيين، وزعامات محلية، على الرغم من أهمية كل هذه القوى والكيانات في توجيه الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، للمدينة نفسها، فالريف كان هو الذي يزود المدينة بنتاجاته الاقتصادية، وبحسب ما كان يصلها منه كانت تعيش حياتها ازدهاراً أو اضمحلالاً، والقبائل هي التي كانت تحمي طرق التجارة وهي التي تقطعها أيضاً، وبحسب هذا أو ذاك تزدهر التجارة ومن يتعامل بها من التجار والحرفيين أو ?خبو فتقل الموارد المالية التي تدخل المدينة بسبب ذلك النشاط. والريف الزراعي المستقر هو الذي كان يرفد المدينة بالوافدين لطلب الرزق أو طلب العلم على حد سواء، ومن ثم فأنه يمثل المورد الأساس الذي به تجدد المدينة دماءها، وتتنوع العناصر التي تدخل في تركيبها الاجتماعي.

وتاريخ العشائر الكوردية يمثل أنموذجاً لما تعانيه دراساتنا المعاصرة من نقص فادح في مثل هذا المجال المهم من مجالات كتابة التاريخ، فأكثر معلوماتنا في العصر الوسيط عنها مستمد من مصادر تاريخية كتبها مؤرخون مصريون أو شاميون، وأغلب ما نملكه من معلومات عنها في العصر الحديث كتبه مؤرخون إيرانيون أو عثمانيون، وباستثناء نفر قليل من المؤرخين الكورد، أمثال شرفخان البدليسي في كتابه الشهير (شرفنامه) وحسين ناظم في تاريخه للأمراء البابانيين، والموكرياني في تاريخه للأمراء السورانيين، فإننا لا نجد بين أيدينا ما يعول عليه كثيراً في كتابة تاريخ هذه العشائر على الرغم من جسامة الأدوار السياسية والاجتماعية والعسكرية التي أدتها في إسناد الكيانات السياسية الكوردية، وفي إسقاطها أيضاً.

وإذا كان الباحث لا يجد في المصادر التاريخية والأدبية إلاّ القليل من الإشارات التي يمكن أن تملأ هذه الثغرة الخطيرة في معلوماته، فإنه مضطر إلى تقصي مصادر جديدة لم تستنفذ معطياتها إلى الآن، يمكن أن تكمل له صورة الحياة خارج مدن العصر الذي يدرسه، وتبرز الوثائق الرسمية العثمانية بوصفها أكثر تلك المصادر أهمية في هذا الصدد، وذلك للأسباب الآتية:

1-إن هذه الوثائق،على الرغم من مخاطبتها الولاة والمسؤولين الرسميين في المدن، إلاّ أنها  استندت في معلوماتها غالباً على تقارير كان يرسلها إلى السلطة العثمانية المركزية زعماء ريفيون، ورؤساء قبليون، ومن ثم فإنها تحكي مشكلات حقيقية كانت تعاني منها عشائرهم.

2- إنها تمثل طريقة تعامل السلطة المركزية مع المشكلات القبلية، من فض نزاعات، وتوطين، ودفع ضرائب، وغزو مسلح، ونزاعات ملكية.. الخ، وفي ذلك ما يلقي ضوءاً على العلاقات بين المدينة والعشائر من جهة، والعلاقات بين العشائر والعشائر من جهة أخرى.

3- إنها توضح موقف العشائر من الصراع العثماني الإيراني في كوردستان، تأييداً لهذا الجانب، أو دفعاً لذاك، وإفادتها في الحالين في تأكيد نزوعها السياسي والاجتماعي نحو تأكيد ذاتها المستقلة.

والأرشيف العثماني حافل بالوثائق التي تتناول واقع تلك العشائر الكوردية في القرون الأربعة الأخيرة التي سبقت قيام الحرب العالمية الأولى، إلاّ أننا سنحاول هنا أن نقدم نماذج من وثائق إحدى مجموعات ذلك الأرشيف الضخم، وهي المجموعة المسماة (دفاتر مهمة)، وتضم نسخاً من الأوامر التي كانت تصدر باسم السلطان العثماني إلى المسؤولين في أرجاء الدولة، ممن هم بدرجة أمير أمراء (ميري ميران)، ويحكمون عادة مراكز الولايات، مثل بغداد والموصل وشهرزور، وإلى القضاة في المدن الرئيسة، مثل قضاة بغداد والموصل وأربيل والعمادية وكركوك، وإلى قادة الجيوش المحاربة في هذه المناطق حينما تكون البلاد في حالة حرب، وفي الغالب فإن هذه المخاطبات الرسمية تطلق على العشيرة اسم (طائفة)، كما أنها لا تميز بين ما هو ثورة أو تمرد أو أعمال فوضى، لذا فإننا كثيراً ما نجدها تصف زعماء حركات عشائرية بأوصاف تمثل وجهة النظر الرسمية في حينها مثل (متمردين) و(مخربين) و(مفسدين) و(عصاة)، ثم تعود لتصفهم، إذا ما تغيرت وجهة النظر هذه، إلى (مؤيدين لجانب الدولة العلية) و(مجدين) و(شجعان) وما إلى ذلك.

         ولابد لنا هنا أن نشير إلى موقف الدولة العثمانية من مسألة توطين العشائر، لما لها من أهمية في تحديد تابعيتها إلى هذه الوحدة الإدارية أو تلك، وفي الواقع فإن الدولة اتبعت سياسة توطين العشائر في المناطق الريفية التماساً لهدفين في الأقل، أولهما أن سكنى عشيرة ما في أرض لها موارد طبيعية كافية أمر من شأنه أن يحولها إلى أرض زراعية منتجة، وهذا يعني أنها ستدفع عنها ضرائب ورسوماً تزيد من دخل الحكومة (الجانب الميري بحسب مصطلح الإدارة المالية)، وثانيهما أن شغل العشائر لأرض خالية، أو قليلة السكن، يجعلها تمثل حاجزاً بشرياً أمام أي غزو خارجي محتمل، أو حركات تقوم بها فئات ضد القانون. وكانت الطريقة المتبعة في منح الأرض لعشيرة ما هي أن تمنح الأخيرة حق زراعتها والرعي فيها والانتفاع منها بكل وجه، ودفع حصة الحكومة (الميري) من ضرائبها، مقابل أن تلتزم العشيرة بالدفاع عنها، أو بأداء ما عليها من واجبات عسكرية، على وفق نظام الإقطاع العسكري العثماني المعروف باسم (التيمار). من ذلك أننا نقرأ في الوثيقة المؤرخة 20 جمادى الآخرة 986هـ(دفتر مهمة 35 ص171) حكماً صادراً إلى أمير أمراء شهرزور يتعلق بكتاب ورد منه إلى السلطان (يذكر فيه أن في ولايته بعض الأراضي هي خالية وخربة وقد أصبحت مأوى للصوص والأشقياء ويلتمس توجيهها إلى أصحاب العشائر من المجدين بطريقة (التيمار) للحصول على دخل جديد للجانب الميري من جهة ومنع اللصوص والحرامية من اللجوء إليها من جة أخرى، وقد نص الحكم على القيام بذلك إن لم تكن هذه الأراضي الخالية الخربة ملكاً لأحد أو وقفاً وكان في توجيهها بطريق التيمار إلى من يعمرها نفع للجانب الميري) ومثل هذا الأمر نجده في وثائق أخرى منها الوثيقة المؤرخة 7 ذي القعدة 985 دفتر 33 ص228 باستثناء أنه يذكر لواء قره طاغ، ومثله الوثيقة المؤرخة في 8 ذي القعدة 985دفتر 33 ص235 إلى أمير لواء أربيل. كما نجد في الوثيقة المؤرخة في 25 ذي الحجة 988هـ (دفتر مهمة 42 ص172) حكماً صادراً إلى أمير أمراء شهرزول (كذا تكتبها وثائق ذلك العصر) يتعلق (بمنح بعض الأماكن الخالية والخربة لأصحاب العشائر على وجه التيمار فيما إذا كان في ذلك نفع للجانب الميري وللناس والرعية بشرط أن لا تكون هذه الأماكن الخالية الخربة ملكاً لأحد أو وقفاً). وكأنموذج على سياسة التوطين هذه، ما نجده في الوثيقة المؤرخة في أواسط رمضان سنة 1126هـ/1714م (دفتر مهمة رقم 122 ص159) جرى بشأن إسكان بعض العشائر(لم يذكر اسمها) في المنطقة الواقعة بين كركوك وأربيل، وذلك لغرض (حراسة الجسر الذي تم ترميمه مجدداً، وهو جسر آلتون كوبري، الاشتغال بالفلاحة والزراعة والأسهام في عمران المنطقة وازدهارها).

    وقد جرى العرف أن تسجل تبعية كل عشيرة في سجل، يودع في (الخزانة العامرة)، حيث يراجع هذا السجل كلما اقتضى الأمر ذلك، لاسيما في الشؤون المالية والضرائب (وثيقة مؤرخة في غرة جمادى الأولى 1054هـ/1644م)، وكان يطلب من الولاة إعداد دفاتر بأسماء عشائر الزعماء المحليين الذين تعهد إليهم وحدات إدارية أو عسكرية، فالوثيقة المؤرخة في 9 ذي القعدة سنة 985هـ/1577م تتضمن أمراً إلى والي شهرزول، وعدد من الولاة الآخرين، بتنظيم دفاتر بأسماء رؤساء تلك الوحدات، تتضمن أسماء عشائرهم، وإرسال هذه الدفاتر إلى استانبول. وأنه يجب على مقدمي العرائض والطلبات إلى السلطان تقديم بيانات عن عشائرهم، وختمها بختمهم الخاص (حتى لا يقع اشتباه في أماكنهم).

فمما نوهت به هذه الدفاتر مثلاً، بعض أخبار عشائر السندي والبلباس ومكري والزيبار وأكوان وزازا وشقاقي ومللو وصارلو وباجلان والجاف وسماقلو وغيرها.

وسنتناول فيما يأتي هذه العشائر بحسب ورودها في هذا الأرشيف:

زيــبـــار:ـــ
عشيرة قديمة في منطقة عقرة ونواحيها، كانت أولى العشائر التي ساندت البيت العباسي في وصول الحكم في العمادية ونواحيها، حتى سميت في وثائق هذا البيت (وزراء الزيبار)، وأشير إلى هذه العشيرة في الوثائق العثمانية باسم (زيباري)، بوصفها من العشائر المهمة في إمارة بهدينان، وكان لها دور في حوادث الصراعات بين أمراء هذه الإمارة. ففي الوثيقة المؤرخة في 19 جمادى الأولى 984هـ/1576م (دفتر مهمة رقم 38 ص5-6) نقرأ أن حكماً قد صدر إلى أمير أمراء شهرزول (= شهرزور) يتعلق برفض بهرام بك بن السلطان حسين بك العباسي منصب أمير لواء القورنة (القرنة في البصرة) مفضلاً البقاء في عشيرته، ومطالباً ببعض النواحي والقلاع من إمارة أبيه، وكان الحكم قد انتقل إلى أخيه قباد بك (981- 991هـ/1573-1583م) وقد لجأ بهرام المذكور إلى عشيرة الزيبار، إحدى أهم القوى التي ساندت حكم أمراء بهدينان منذ لحظة وصولهم إلى السلطة في العمادية. وتقول الوثيقة أن كتاباً (ورد من قاضي الموصل يذكر فيه أن بهرام من أولاد المتوفى حسين بك حاكم العمادية السابق كان قد تم توجيه لواء القرنة إليه في البصرة ولكنه لم يذهب إلى اللواء المذكور وبقي داخل عشيرته في الجزرة، وجمع حوله عدداً كبيراً من الأشقياء، ثم انتقل إلى عشيرة زيباري في العمادية، يطالب ببعض النواحي والقلاع في العمادية على أن يتم توجيهها إليه بطريق اللواء، كما ذكر القاضي في كتابه أن بهرام هذا سلك طريق الشقاوة وجمع حوله رجالاً من عشيرة زيباري أيضاً استعداداً للهجوم على حاكم العمادية بالفعل قباد بك دام عزه، ويقطع الطريق على الت?ار بين العمادية والموصل وأدى ذلك إلى توقف الحركة التجارية بينهما). وتكشف وثيقة تالية، مؤرخة في 19 ذي الحجة 985هـ/1577م (دفتر مهمة رقم 33 ص327) عن أسماء بعض زعماء عشيرة الزيبار، ممن ساندوا بهرام المذكور- فيما يظهر- حيث تتضمن حكماً موجهاً إلى حاكم العمادية، وهو هنا قباد بك نفسه، يتعلق بكتاب ورد منه إلى السلطان (يلتمس فيه تأجيل أمر القضاء على بعض المفسدين المخربين وبينهم زعيم عشيرة بيارى (زيباري) علي وأخوه حمزة وبعض أقاربه لإفساح المجال إلى تحقيق شامل في حقهم)، ومن الراجح أنه إنما فعل ذلك لكي لا يضع ثقل هذه العشيرة المهمة في صالح معسكر أخيه الثائر. وقد نص الحكم على إسعاف طلبه وأمره بعرض النتائج إلى استانبول.

سنــدي:ــــ

تحرف اسمها في الوثيقة المؤرخة في 10 جمادى الآخرة 983هـ/1575م(دفتر مهمة رقم 26 ص226) إلى (سيدي)، وجاء اسمها مدمجاً، بدون واو العطف، مع اسم عشيرة أخرى، هي السليماني (السليفاني)، والعشيرتان كانتا من أهم العشائر في إمارة بهدينان، ولهما الدور البارز في الحياة السياسية الدائرة فيها عهد ذاك، ومحور تلك الحياة الصراعات التي كانت تنشب بين أمراء البيت المالك. ونقرأ في هذه الوثيقة أن حكماً صدر إلى أمير أمراء بغداد (يتعلق بكتاب ورد إلى السلطان من حاكم العمادية قباد بك دامت معاليه يذكر فيه أن عشيرة سيدي (سندي) [و] سليماني في اللواء الذي تم توجيهه إلى أخيه بهرام دام عزه عشيرة دأبت على التمرد والفساد، وإن الذي يحرضها على التمرد ويساعدها في ذلك هو بدر بك، وإن هذه العشيرة منعت أخاه بهرام من الدخول في لوائه، وقد نص الحكم على قيام أمير أمراء بغداد بإجراء تحقيق في الأمر) ولا توضح الوثيقة هوية بدر بك المذكور، وما طبيعة تأثيره على العشيرة الكوردية (سندي) و(سليماني) حتى ينسب إليها منعها بهرام بك من الوصول إلى اللواء الذي منح له، وما هي وجه مصلحتها في ذلك.



سلــيمــانـــي:ــــ

وتسمى السليفاني أيضاً، عشيرة كبيرة مؤلفة من بطون وفروع عديدة، ترددت الإشارات إليها منذ العصر الجلائري، حين أقامت زعامة قبلية بقلاعها، كانت تعد من الكيانات المحلية القوية في ديار بكر (زرار صديق توفيق: القبائل والزعامات القبلية الكردية في العصر الوسيط، ص112). ووردت أخبارها بصفتها مدمجة أومتحالفة مع قبيلة السليماني (سليفاني) في وثيقة مؤرخة في 10 جمادى الآخرة 983 هـ/1575م (دفتر مهمة رقم 26 ص226)، ويفهم من هذه الوثيقة أنها كانت قد أعلنت تمردها على أمير بهدينان قباد بك، ومنعت أخاه بهرام بك من الوصول إلى لوائه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق